” خِداعُ الأحاسيس يؤدِّي الى تضليل المشاعر “.
بقلم : رائد دحبور .
كَمَدْخَلٍ لِفَهمِ آلِيَّة خداع الأحاسيس للمشاعر مِمَّا يؤُدِّي الى تَضْليلها؛ نَأْخُذُ – وعلى سبيلِ المثال – ما يُمْكِنُنا تَسْمِيَتُه ” الدَّائرةُ العصبِيَّة لتَدَفُّقِ مشاعر الخوف والحَذّر ” :
قد نَسْمَعُ ونحنُ نستلقي على السَّرير أثناءَ الَّليل – إستعداداً للنَّوم أو أثناءَ فترة ما بين النَّوم واليَقَظة – صوت ارتطام شيء بالأرض أو مايشبه صوت طرقات على الباب أو الشُّبَّاك – وقد يكون هذا الصَّوت نتيجةً لهبوب الرِّياح في الخارج ؛ أو نتيجةً لحركة قطَّة في المنزل؛ أو نتيجة سقوط شيءٍ في المطبخ وُضِعَ بطريقةٍ غير مناسبة ..
على الفَوْرِ تبدأ الدَّائرة العصبيَّة للخوف بعملِيَّةِ استجابةٍ سريعة لذلك المؤثِّر الَّذي التَقَتَطْهُ عبر حاسَّة السَّمع ؛ وتبدأُ بتحليل ذلك الصَّوت اعتماداً على مقارَنَتِه بصورٍ وأصواتٍ مُخْتَزَنةٍ في الذَّاكرة ؛ وتبدأ انفعالات المشاعر الدَّاخليَّة بالتَّدَفُّق نحو منطقة الخوف والحذر في الدَّائرة العصبيَّة ؛ لِثَوَانٍ أوْ لِدقَائق قَلِيلَةٍ من الزَّمن ؛ وفي حالِ افتقدنا السَّيطرة على تدَفِّق تلك المشاعر فإنَّها تتطوَّر الى حالةِ الإغراق بالخَوْفِ والى فقدان القدرة على تفسير الموقف بِشَكْلٍ صحيح ؛ ما يؤدِّي الى تدفُّق مزيداً من مشاعر الخوف والقلق والحذر ؛ وتبدأ الصور الأكثر قسوة والإحتمالات الأشدّ خطراً بالتوارد من الذَّاكرة ؛ وتبدأ التَّهَيُؤات بالسَّيطرة على المشاعر والمتَّصِلة منها بالأوهام – كالأشباح على سبيل المثال – أو باحتمال حصول عملية سطو على المنزل من قِبَلِ الُّلصُوصْ ..
إنَّ غموض الإشارات الواردة عبر الحواس وعجزنا عن تفسيرها وتحليلها بشكلٍ صحيح ؛ يؤدِّي الى عدمِ فهمنا الصحيح للموقفِ ؛ ويخلِقُ تجاهَ الموْقِف مشاعرَ يجري تَضليل خطَّ سَيْرِها .
قياساً على المثال السَّابق ؛ يُمْكِنُنا تخيُّل المشاعر الَّتي يمكنُ أنْ تتدَفَّق نتيجةَ التقاطِ أسماعِنا لكلِمَةٍ أو عبارَةٍ غامضةٍ من أحدِ الأشخاص فننفَعِلُ تجاهها على نحوٍ غير سليم عندما يجري تفسيرها أو تحليلها داخل دائرتنا العصبيَّة اعتماداً على عدمِ وضوحها ؛ أو اعتماداً على تَهْيِأتِنا الدَّاخلية المُسْبَقة والخلفيَّة الإستباقيَّة الَّتي قد تتحكم في طريقة و طبيعة التعامل مع الموقف الَّذي سمعنا هذه الكلمة أو العبارة في أثنائه أو في مناخِه ؛ ونفس الشَّيء ينطبق على المواقف والمشاهد الَّتي قد تصلنا عبر الحواس بشكلٍ غامضٍ أو مشوَّش ؛ أو بشكلٍ ينطوي على الخداع ؛ فتَتَولَّدُ فينا مشاعر الغضب أو القلق أو الخوف أو الحَذَر أو الدَّهشة أو الحب والرَّغبة أو الكراهية والتَّقزُّزْ على نحوٍ غير سليم .
فالمشاعرُ – إِذَنْ – تأتي نتيجةً لِلأحاسيس الدَّاخليَّة تجاه الظَّواهر أو الأشياء أو الأحداث أو الأشخاص أو حتَّى تجاه أنْفُسِنَا ؛ و تَتَوَلَّدُ المشاعرُ بِفْعْلِ المُؤثِّراتِ الحِسِّيَّة الخارجيَّة أو نتيجة آليَّة التفكير الَّتي لا تنْفَكُّ عن المُضِيِّ عبْرَ حَيَوِيَّةِ النَّشاط الدِّماغي كيميائيَّاً وفيزيائيَّاً وضمن دائرتنا العصَبِيَّة ؛ مِمَّا يُؤَثِّرُ في تحديد مستويات تدَفُّق وتأثيرات الهرمونات المُخْتَلِفة داخل الجسم ؛ وكذلك ؛ فإنَّ ذلك يؤثِّرُ الى حدٍّ ما في تسارع أو بطء نبضات القلب وفي تحديد مستويات ضَغْط الدَّم في الجسم .
وهذه المشاعر في الغالب ؛ تَتَأَتَّى كنتيجَةٍ لِحَرَكَةِ الكيمياء العصبيَّة داخل الدِّماغ – كيمْيائِيَّاً – و نتيجةً لارتفاع أو انخفاض مستويات الهرمونات في الجسم – كَهُرمون الأدرينالين أو الكاتْشولامين – ونتيجة لانخفاض أو ارتفاع مستويات ضغط الدَّم في الأوردة والشَّرايين؛ أو نَتيجَةً لِحَرَكَةِ تَدَفُّق واتِّجاه شحنات تيار الكهرباء السَّاكنة داخل الدِّماغ – فيزيائِيَّاً – مابين شُحْناتٍ مُوجبة وسالِبة ؛ بحيث يلعب توازن الشُّحنات الموجبة والسَّالبة أو عدمِ توازنها دوراً مُهِمَّاً في تحديد اتِّجاهات المشاعر ؛ أو في تحديد مقادير الصِّحة النَّفسِيَّة ؛ أو في تحديد مقادير الإسترخاء أو التَّوتُّر العَصَبي .
و تعملُ المؤثِّرات الحسِيَّة كما عمليَّة التفكير و تدفُّق الأحاسيس الدَّاخليَّة على حثِّ تلك الحركة الحيويَّة داخل أدِمِغَتِنا وداخل دائِرَتِنا العَصَبيَّة وداخل أجسامِنا ضمن دائرة مُتكامِلة .
إنَّها – أيْ المشاعر – وفي إحدى أهمِّ جوانبها ؛ خلاصة آلاف الأفكار التي تمُرُّ مروراً سريعاً في أدمِغَتِنا – وبالمناسبة تمرُّ في أدمغتنا حوالي 60 ألف فكرة في اليوم الواحد ؛ والقليل جدَّاً منها يؤثِّرُ ويستقرُّ في دواخلنا ؛ ويُلِحُّ علينا تاركاً آثاراً تجدُ لها تعابير وتجَلِّيات في سلوكنا ؛ فيما أنَّ الكثير منها يَمُرُّ دون أنْ يتحوَّل الى أيِّ شكلٍ من أشكال السُّلوك ، ودون أنْ يترك سوى آثارٍ طفيفةٍ في تحديد اتِّجاهاتنا الدَّاخليَّة .
تَتَولَّد المشاعر لدينا – إذنْ – ضمن دائرةٍ متكاملة تؤثِّرُ في استثارَتِها وفي حركةِ دورانها واتِّجاهاتها وشِدَّتِها؛ تلكَ المُؤثِّرَاتُ الخارجيَّة التي تنتقلُ إلينا عبر الحواس – أيْ عَبر النَّظر أو السَّمع أو التَّذَوُّق أو الشَّم أو الَّلمس – أو تِلْكَ المُؤثِّرات الَّتي يكونُ مَصْدَرُها أحاسيسنا الدَّاخِلِيَّة؛ المُتَولِّدة داخل أنْفُسِنا بِمَعْزَلٍ عن المؤثِّرات الحسِّيَّة الخارِجيَّة المباشرة والآنِيَّة؛ وتأتي هذه المشاعر ضِمْنَ تفاعُلٍ يجري بينَ الَّلاوعي في عَقْلِنا الباطِنِ وبينَ الوَعْيِ في عقْلِنا الإدراكي ؛ حيثُ تَلْعَبُ مخزونات الذَّاكرة لَدَيْنا والمُرْتَبِطَةِ بالأحداث الَّتي مَرَرْنا بها عبر الزَّمن الماضي – سواءً في هوامِشِ ذاكِرَتنا المُهْمَلة الخامِلَة – أو المُسْتَتِرَة ؛ أو في ثنايا ذاكِرَتنا النَّشِطة الفَعَّالة أو الظَّاهرة – دَوْراً أساسِيَّاً في توليدِ تلك المشاعر وفي تحديدِ مِقدار شِدَّتِها وطبيعة اتَّجاهاتِها .
و بذلك ؛ فإنَّ مشاعِرَنا و انفعالاتِنا الدَّاخليَّة تكونُ نتيجةً لِتَداخُلِ وامتزاج مخزونات الذَّاكرة النَّشِطة مع مخزونات الذَّاكرة الكامنة – ضمنَ دائرتنا العصبيَّة – على طولِ خطِّ تفاعُلِهِما الدَّائم عبرَ التفكير والتَّعامل والتَّفاعُل مع مُجْرَيا أحداث حياتنا اليوميَّة .
و تتراوح هذه المشاعر بين مشاعر الحب والرَّغبة والتَّعاطف والقبول ؛ وبين مشاعر الكراهية والنُّفور والرَّفض ؛ و بين الشُّعور بالإستقرار النَّفسي والرِّضى الدَّاخلي ؛ أو الإضطراب والتَّوَتُّر والقلق وعدم الإرتياح ، وعدم الرِّضى عن النَّفس ؛ أو بين الشُّعور بالأمان أو الخوف أو الحذر ؛ أو الشَّك أو الثِّقة ؛ أو بين الرِّضى والغضب ؛ وكل هذه المشاعر يمكننا أنْ نتدخَّل في ضبطها وترشيدها ورسم حدود تاثيرها بشكلٍ إرادي – أو ضمن حدود سَيْطَرَتِنا الإدراكيَّة والإرادِيَّة الى حدٍّ ما – وإنْ لم يكن بمقدورنا إقصائها بالكامل .
لكن ثمَّة مشاعر ترتبط بالألم أو بالَّلذَّة أو بآثار ومظاهر الإعياء والمرض ؛ والَّتي يكون مبعثها أسبابٌ حيويَّة بيولوجيَّة أو عصبيَّة تتصل بالخلل في وظائف أعضاء الجسد ؛ وهذه بالتأكيد خارج آليَّة التَّحَكُّم الإرادي ؛ وإنْ لعبت طاقة وقدرة التَّحمُّل ومقدار الصَّبر دوراً متفاوتاً بين شخصٍ وآخر في التَّخفيف من انعكاساتها النَّفسيَّة والشُّعوريَّة الدَّاخليَّة .
الخلاصة :
بينما نُدْرِكُ آلية تولُّد المشاعر ؛ يمكننا التركيز على فهم حركتها ؛ وبالتَّالي محاولة ضبط اتِّجاهاتها ورسم حدود تأثيراتها .
و بينما تتولَّد مشاعرنا نتيجة المؤثِّرات الحسيَّة الخارجيَّة ونتيجة المؤثِّرات الدَّاخليَّة المتأتِّيَة عن سيطرة وهيمنة أفكار محددة كمحصِّلةٍ لتكرار دورانها في أدمغتنا – وأحياناً دون مبررٍ واقعي – ؛ يمكننا أنْ نتلمَّس طبيعة تلك الأفكار و نوعيَّتها ؛ وكيف لها أنْ تقوم بتضليل مشاعرنا ؛ أو بتوليد مشاعر و أحاسيس زائفة ليس لها ما يبررها واقعيَّاً .
من هذه الزَّاويَة بالضَّبط – زاوية تضليل الأحاسيس للمشاعر ؛ بفعل المبالغة و الإضطراب والخطأ والخلل في التقاط المؤثِّرات الحسيَّة وتحليلها وتقدير حجمها وأهميّتها والتَّأثُّرِ بها ، و المبالغة في تكثيف الإتِّجاهات السَّلبيَّة للأفكار الدَّاخليّة – تسيطر علينا مشاعر الشَّك ؛ أو تستحوذ علينا مشاعر الغضب أو عدم الرِّضى ؛ أو تستبِدُّ بنا مشاعر الكراهية ؛ أو تهيمنُ علينا مشاعر القلق والخوف؛ وتدفعنا الى سلوكٍ سلبي تجاه الآخرين أو الأشياء أو الظواهر أو الحياة بِمُجْمَلِها ؛ أو حتَّى تجاه أنفسنا ؛ مِمَّا يَدْفَعُنا الى السُّلوكِ الإنْفِعَاليِّ الَّذي غالِباً ما يَجْعَلُنا نَهْبَاً لمشاعِرِ النَّدَم ؛ ويَغْرِقُنا في بيئةٍ من عدم الإستقرارِ النَّفسي ؛ أو الإضطراب الدَّاخلي ؛ ويقَلِّلُ من قدرتنا على التَّوازن في مواجهة المواقف المُختلفة .
منقول ..
امل الانصاري